موقع الكتابة الأنيقة

يقدم موقع الكتابة الأنيقة حوارات مع كتاب موهوبين، ومقالات لمناقشة الأدب والقضايات التي تهمنا، ومراجعات روايات، مع تقديم إعلانات للأعمال الأدبية وإصدارات الكتاب المهوبين

قراءة في كتاب هواجس المنتزه المنفرد بنفسه لجون جاك روسو

قراءة في كتاب هواجس المنتزه المنفرد بنفسه لجون جاك روسو | الجزء الأول

قراءة في كتاب هواجس المنتزه المنفرد بنفسه لجون جاك روسو | الجزء الأول

 كتاب هواجس المنتزه المنفرد بنفسه لجون جاك روسو، هو عبارة عن مجموعة خواطر يطرح فيها الكاتب أفكاره ويشرح بعضا من فلسفته ونظرته لقضايا،  كالسعادة والكذب والحرية، بالإضافة إلى مجموعة من الحكايات التي يقدمها روسو، والتي تعبر عن مشاعره الخالصة، وقد حكى مجموعة من القصص أو المواقف التي كان الغرض منها توضيح وجهة نظره أو حقيقة مشاعره، سواء للرد على شائعات كحديثه عن حبه للأطفال، أو لإظهار حزنه كالحديث عن تعرضه لمواقف محزنة تثير حفيظته، وتزيد عزلته.

 

ما الذي لفت إنتباهي في الكتاب

كل غرضي هو إعطاء رأي شخصي، لا أكثر ولا أاقل.
الكتاب ليس بروعة إعترافات روسو الذي سبق الحديث عنه، ولكنه يحمل كذلك العديد من المفاهيم الرائعة التي تستحق النقاش. قبل كل شيء أتحدث عن الترجمة التي كانت مقبولة، ولا أقول أنها ممتازة.

قدم روسو هواجسه في عشر نزهات، في كل نزهة يحدثنا عن أفكاره ومشاعره وتلك الخواطر الفكرية التي تشغله. ولا أريد تحليل كل نزهة لأن هذا سيحتاج وقتا طويلا، وغير ذلك فقد أتت بعض النزهات بشكل غير واضح أو كانت خواطر متفرقة ولا يمكن تلخيصها في فكرة أو اثنين. مما يدفعني للحديث عن بعض الأفكار التي لفتت إنتباهي . والتي أراها تستحق النقاش.

كانت بداية حديث روسو في كتابه؛ بعبارة تثير الحزن في نفس القارئ حين قال:

ها إني قد أمسيتُ وحيدا على الأرض، فلا شقيق بعد اليوم، ولا قريب، ولا صديق، ولا عشير لي سواء.

بدأ روسو نزهتة الأولى بالتحسر على حال العزلة التي فرضت عليه، وقد أوضح في أكثر من موضع أن المحزن في الأمر ليس عزلته في حد ذاتها. فهو قد اختار الرجوع للأصل، تطبيقا لفلسفته، ولكن ما يجعله شديد التأثر؛ هو تلك الكراهية والأحقاد التي لا تترك له منفذا للتمتع بلحظة هانئة. فقد صرح في أكثر من موضع. أن أجمل ما في نزهاته وهو تأمل الناس والأطفال والنظر للطبيعة، الشيء الذي لم يعد ممكنا وهو يرى في كل مرة نظرات تشتعل بالحقد والكراهية. نظرات تفقده الرغبه في مواصلة نزهاته. وتُحول تلك اللحظات الرقيقة لجحيم يقبض قلبه.

هذه البدالة تبين لنا عزلة روسو كيف كانت، فهي لم تكن مجرد ابتعاد عن الصخب، بل صارت وحدة تقهره، حتى أصبح غير قادر على تكوين علاقات تشاركه لحظات بسيطة، أو حوارا هانئا. ما زاد شعوره بالفراغ وعدم الإنتماء لهذا المجتمع وزاد بعده عنه.

ونتابع مع روسو نزهاته. لنصل للنزهلة الثالثة في حديثه عن الفلاسفة حيث قال:

… وكثير منهم لم يكن يرمي إلا إلى تأليف كتاب، أيا كان نوعه، شرط أن يقبل عليه الناس…

في إشارة صريحة للكتاب الذين ليس لهم مبدأ ولا يقفون عند رأي، فكل غرضهم البحث عن أشياء تثير القارئ من أجل مكسب مادي أو شهرة سريعة. فالترويج لأفكار مثيرة، أو إتباع أهواء المجتمع ليس بالأمر الأخلاقي، وهذا ما يشرحه روسو بقوله هذا. ليثبت أن هؤلاء لا يكتبون لتحليل إشكالية أو الوصول لنظرية علمية تفيد الناس في حياتهم، بقدر إهتمامهم بالشهرة والربح. وقد تحدث في الأمر في سياق خواطره حول معتقداته التي صرح فيها، أن الفلسفة التي كانت معاصرة في زمنه لم تكن نقية، وكان كل همها إثارة الناس وتشكيكهم في معتقداتهم، واعترف روسو أنها جعلته يشك في نفسه… ونفهم من كل هذا أن هؤلاء الفلاسفة لم يكن غرضهم المعرفة، بعكس روسو الذي كان يسعى فقط للبحث عن معرفة نافعة يعمل بها في حياته.

وهذا جعله يضيف قائلا:

وأما أنا فكنت إذا أردت أن أتعلم؛ فلكي أعرف نفسي لا لأعلّم غيري.

وهذا يعطينا فكرة عن مبدأ فلسفة روسو. القائم على المعرفة من أجل التعرف وفهم الذات أولا. أي التعمق في الطبيعة النفسية والعاطفية والفكرية للإنسان، قبل البحث عن التأثير في الآخرين، أو إرضائهم. لأن الغرض الأساسي للمعرفة هو تطوير الذاتب أولا، وهذا من خلال العمل بما نؤمن به.

وأضاف بعدها قائلا:

وكنت أعيش مع فلاسفة معاصرين لا يشبهون القدماء في شيء. وبدلا من أن يزيلوا شكوكي ويحددوا ارتباكي، زعزعوا يقيني في جميع النقاط التي كانت أهمية معرفتها عندي فوق كل أهمية. لأنهم إذ كانوا رسل إلحاد، وعقائديين جازمين متغطرسين فإنهم كانوا لا يتحملون إلا بغضب أن يجرؤ امرؤ على أن يفكر بخلاف ما يفكرون في مسألة ما….

وهذا يوضح لنا أكثر من شيء، اهمه مشكلة روسو التي كانت متمثلة في أنه لم يكن يفكر كمعاصريه؛ الذي وصفهم بمثيري الشكوك على عكس قدماء المفكرين الذين كانوا يبسّطون المعرفة، فقد كان ينظر لمعتقداته نظرة لا يمكن التشكيك فيها، بل إن راوده الشك فإن هذا الشك لابد وأنه شر، ولا يمكن أن يقود للصواب. وهذا سيثبته لاحقا حين يتوصل لما يجعله ينهي شكوكه. حين يصل للعودة لفطرته أو قلبه لتجنبه الشكوك التي يثيرها العقل.

وعودة لموضوع شكه في فلاسفة عصره شرح أنه لا يصدق أن هؤلاء مقتنعون بأفكارهم، ولا يظنهم يعملون بها، بل كما بدأ قوله، يرى أن كل غرضهم الربح من خلال تقديم أفكار أو فلسفة مربحة.. لإرضاء غطرستهم

وقد أضاف كذلك قائلا:

…الذين لا أثق في أن الآراء التي يذيعونها. والتي يجتهدون في حمل الآخرين على الأخذ بها، هي حقيقة ما يرون لأنفسهم.

حيث يؤكد وبشكل واضح أنه لا يثق بالمفكرين والفلاسة، ويعتبر آرائهم الذي تنشر في الكتب قد تكون مبنية على التأثر بالحركة الفكرية الشائعة، أو محاولة لإرضاء أهواء المجتمع والسير على منواوله.

وتنتهي النزهة الثالثة متحذثا عن نفسه المهددة بقوله:

وتبصر تفاهة جميع هذه المعارف التي يعتزّ بها علماؤنا المزيفون اعتزازا باطلا، وتتألم عندئذ وتأسف أن قد أضاعت في هذه الحياة أوقاتا في سبيل اكتساب هذه المعارف.

وهنا نرى ميل روسو للبحث عن المعرفة ذات القيمة الحقيقية، والإبتعاد عن المعرفة الخالية من القيمة، والتي لا تفيد في شيء. وينتقد الغارقين في هذه الحالة.

إدعمنا بمشاركة المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *