إيريس – الجزء الأول: البداية – بقلم سفيان ل
وقع أقدامه أحدث صوتا مهيبا كسر همس الرياح الذي يوسوس له طالبا الرحيل، يتقدم المبعوث بخطى بدت واثقة؛ سرعان ما دبّ التردد فيها، مكان يخفي قصصا وأسراراً من كل الأزمان؛ يُحدث في النفوس نوعا من الرهبة لا تقاون، لكن الأمر الذي أتى به لا يحتمل التردد.
بدى العرش أمامه يملئ المكان، يعطيه رونقا غريبا من الهيبة. صارت أفكاره مشحونة وتقدم ليقطع صوت أقدامه حديث آخر قادم من العرش.
– إن جئت تسعى لإنهاء حياتك فاطمئن !
ظلٌّ غامضٌ لرجل يبدو عليه الضخامة خاطبه بصوت واثق لا يحمل ذرة تردد ولا شك، هزَّ كيانه. حتى قبل أن يستجمع أي فكرة أو عبارة مِمّا كان قد أتى ليصوغها؛ سمع الصوت يضيف بلهجة يبدو عليها لمحة تهكم.
– عالمكم الأسود ليس مكانا ملائما لأعيش فيه، إخترت مكاني بين كل من غطاهم طيف النسيان، رحلوا وانتهى الحال بهم كومة عظام يغطيها التراب وبقيت؛ أنا الباقي.
احتل الخوف كل ذرة من قلبه وهو يسمع ذلك الحديث وصدى الصوت المهيب. تلعثم لسانة محاولا اِستيعاب الأمر. تجري الدماء في عروقه متجمدة بينما تدور في ذهنه أسئلة ساذجة هو الوحيد لم يكن يدري جوابها. يسأل نفسه -كيف لهذا الظل الغامض معرفة كل شيء-. ولكن غروره البشري زاده ثقة وأوهمه بأن يردد أسئلة -حول جرأة هذا الغريب في مخاطبة رجل من السلطة له شأن كبير، ترتعش الأبدان وتخرص الألسنة لسماع اسمه يتدرر-.
لكن الظل على العرش أكمل الحديث قبل أن يتمالك المبعوث زمام أفكاره -قبل أن يعود لشرده- أو حتى يستجمع شتات جمل تردد صدى بعضها في ذهنه.
– لا تغريني كل قواك ونفوذك، كل عروضك القيمة التي أتيت محاولا تقديمها، أملكُ أكثر، في سطوتي كنت أملك أكثر مما يمكن لعقلك المريض تخيله، عد لصفحات الجرائد، للعناوين والتقارير؛ من غيّر كل شيء كان هذا الذي تحاول إغرائه، صاحب القرار، وحتى الآن يكفي أن أحرك طرف اصبعي حتى ينفذ الأمر.
لم يكن ليملك لحظة للشعور بالخوف، أو الغضب أو إحساس آخر؛ صار المبعوث يشعر بجسده يتهاوى، ليجثوا على ركبتيه خاضعا؛ حاشعا أمام عظمة العرش ومن عليه، مستسلما لسماع ما كتب عليه سماعه في لحظاته الأخيرة.
– هناك خبايا ليس لأمثالك علم بها، ولن يكون !
يشعر كأن السحاب يطوف حوله متجمدا والرؤية تتلاشى شيئا فشيئا، حتى السمع أصبح يخذله، بدى له الصوت يردد عبارات صارت غير مفهومة، لم يعد قادرا على فعل شيء غير التهاوي أمام العرش وسماع الصوت يخاطبه؛ أما ما أسعفه سمعه عليه، تردد صدى عظيم يكمل حديثه على جتة بدأت تفقد روحها.
– ها أنت الآن تموت في حظرتي.. استمتع بلحظات موتك وأنت أمامي. إفخر أنك قضيت دقيقة ونصف بجوار سيد الكون، واعلم أن كل نسلك سيفنى، هنيئا لك. وهنيئا لهم فقد رحمتهم من غذابي. حظك أني اصبحت طيبا أعطف على البشر. لو كنت أتيتني قبل عشر سنوات كنت ستقضي كل عمر جسدك في غذاب، سنعذبك حتى يتلاشى الجسد؛ حتى تتوسل الروح وتعرف معنى العذاب كيف يكون..
**
في تلك اللحظات بدت الأجواء هادءة مستقرة؛ندير عاصفة قادمة، الشوارع فارغة والصمت يحتضن الأزقة، وفي لحظة لا تتعدى ثانية لم يبقى شيء، لم يعد هناك أبنية ولا أزقة، صارت الأدخنة والأنقاض تملئ البقة كلها. بدى الأمر كخدعة، لا كشيء يستحيل حدوثه؛ لكنه حصل. لم ينتبه أحد حتى صارت الأرواح تترك أجسادا تهشمت تحت الأنقاض. ليصدق وعد الرجل على العرش، وينتهي نسل المبعوث كما انتهى وجوده.
**
– دعني أصفق لأجلك. لأول مرة في حياتي يأتني شخص يظن نفسه يملك نفوذا. عاجز عن شكرك. -قد شكرتك بقتلك دون عقاب-. لأول مرة أضحك من سنينن؛ أحببتك فعلا، لهذا اكتفيت بإفناء كل نسلك وإلا كنت لأفني كل بلدك.
وقف الظل متقدما نحو الجثة وبدأت ملامحه الهادءة تتكشف بتروّ؛ ظهر طيف رجل ضخم البنية يقف بشموخ وهيبة لا مثيل لها رافعا رأسه، يتمعن الجثة الملقاة أمامه، مشيرا بحركة بإصبعه.
– خدوا هذا الشيء بعيدا، ضعوه في الحمض حتى تتحلل جثته واسقوا به أرض الفناء..
تلك الأرض التي ذاقت كل الجثث صار لونها كالجحيم.. وهذا المكان الغريب الذي لا يعرف عنه أهل الأرض شيئا. كان سرا محفوظا لم يكشفه غير قلة، كل من تجرأ أن يطأ أرضه رحل ورحلت ذريته وكل من سمعوا اسمه..
على عرشه من بدأ البشرية، رجل عظيم، يكاد العرش الذي يغطي جزءا كبيرا من هذا الفناء العظيم لا يُرى من ضخامة جسده. بقي ينظر بلا إحساس لجثة الرجل وهي تسحب بعيدا عنه، كان يضع يده اليسرى على ذقنه..
هل يفكر أو يتامل في هذا الحدث. قليل أولائك الذين يعلمون بوجود هذا الرجل على الأرض، حتى هو نفسه لا يعرف كيف أتى، كل ما يعلمه أنه بدأ وحيدا..
حظارات عظيمة على مر الزمن حاولت اِقتحام حصنه لكنها فنت، صارت اليوم مجرد حجارة وبعض الأخبار والقصص في الكتب. ما قال عنه البشر أسرار لن تكشف أبدا كان هو صاحبها. نظر حوله وبدأ يتقدم نحو البواية والنور يسطع أمامه، متقدما بخطى هادءة ليرى مشهدا الأرض الممدودة ويستعيد أول ذكرى عاشها هنا.