الإرث الباقي لجون جاك روسو
الحياة المبكرة لروسو
قد تكون حياة جون جاك روسو بائسة ولكن هذا البؤس جعل منه شخصية مميزة، حيث استطاع التعامل مع الحياة بنفسه في غالب الأحيان، فكان تعلمه للقراءة رغم عدم دخوله للمدرسة مكسبا كبيرا في حياته، خصوصا أنه باشر مشواره في هذا الطريق بغرابة كحياته، وقد ذكر في الإعترافات كيف كان يستأجر الكتب من سيدة وكان نهما في تلك الفترة، يقرأ كل ما يأتي إليه حتى كوّن لنفسه نوعا من الذوق أو الحس الأدبي. وهذا ما ساعده لاحقا في تأليف أعماله سواء أكانت الأدبية أو الفلسفية.
كيف ستكون حياة طفل رحلت والدته بعد تسعة أيام من ولادته، هذا الجرح الذي رافق روسو أيام طفولته وأثناء مرافقته لوالده. وقد أشار إلى تلك اللحظات الحزينة التي كانا يقضيانها محاولين عدم التأثر بغيابها، ولكن أي رجل وجد نفسه أمام مهمة تربية إبنين واحد اختفى عن الأنظار ولم يعرف روسو مصيره. والآخر هو روسو الذي نتحدث عنه. سيجد نفسه حتما يحاول التنصل من تلك المهمة بأسرع وقت.
إن حياة روسو قبل كتابه “العقد الإجتماعي” بل قبل ذلك بكثير، وقبل حتى أن يدخل في دائرة الطبقة النبيلة، اتسمت بغرابة وكانت مثالا لسوء الحظ وهذا ما كوّن تلك الشخصية الغريبة التي نراها في روسو. الذي كان يرفض تقرّب الأدباء منه بشكل مزعج، وخاض صراعات مجانية ربما في هذا الصدد، فقط لأن شخصيته قد اتسمت بجانب مظلم بالأخص حين صار يرى المؤامرات تحاك ضدك بعدما عزل نفسه وقرر العيش عيشة مختلفة بسيطة بعيدا عن المدينة والترف.
مساهماته الفلسفية
أكثر ما يعرف به جون جاك روسو هو العقد الإجتماع، هذا المؤلف الذي قدم فيه نظرة جديدة للفكر السياسي الحديث، حيث شارك مجموعة من المبادئ التي تقول بأن على السلطة أن تنشأ من موافقة الشعب، وقد أوضح أن التنازلات التي يقدمها الشعب تأتي بمكاسب عديدة؛ منها الحماية والأمن. وبشكل عام هي تلك الحقوق التي يوفرها القانون لهم تحت ظل السلطة الحاكمة.
وقد قدم إسهاماته في مجالات عديدة، على سبيل المثال في نظام التعليم. حين طالب بجعل التعليم موجها لتطوير الإنسان وإنماءه على كل الأصعدة، بما في ذلك الجانب النفسي/العاطفي والإجتماعي والأخلاقي، حيث يعتبر أن التعليم الجيد لا يقتصر على نقل المعرفة بقدر اعتماده على بناء الإنسان.
وقد أسهمت فلسفتة كذلك في فهم الطبيعية الإنسانية. أو أضافت جانبا من جوانب الفهم لها؛ حين قال بأن الناس تولد طيبة أو جيدة بالفطرة. ولكن تأثرهم بمحيطهم هو ما يفسدهم ويتسبب في انحلال أخلاقهم. وهذا ما قاده لتطبيق فكرته والبعد عن المجتمع الحديث، حيث وصل إلى أن الإنسان لابد له من العودة لفطرته أو أصله ليعيش تلك الحياة التي ترضيه أو تشبع إنسانيته. وقد كانت نظرته الرومنسية من أعمدة الحركة الرومنسية في الأدب والفن.
الأعمال الأدبية لجون جاك روسو
لا يمكننا إغفال الحديث عن أسلوب روسو الأدبي المميز، ربما هو نفسه لم يكن مدركا لجمال أسلوبه، ولكن حين تقرأ أي عمل أدبي له ستجد متعة لا توصف، فهذا الرجل يكتب كأنه يلحن كلامه على مقام موسيقي. وذلك لصدقه في كل ما يقوله وتصديقه لما يقدمه من أفكار وتبنيه لها. هذا بالإضافة إلى قدرته على التعبير التي ربما اكتسبقا من شغفه القديم بالقراءة. الذي كوّن شخصيته الأدبية.
كان لروسو إسهامات أدبية عديدة، أهمها كان إعترافات جون جاك روسو، والذي تحدثنا عنه في مقال سابق، هذا العمل المميز الذي قدم فيه روسو تجربة إنسانية شديدة التألق والجمال، وقد قدم كذلك عدة مقالات مهمة ككتابه مقالات في الفنون والعلوم، وعمل أدبي بعنوان إيميل، هذا العمل الذي حاول من خلاله روسو تقديم نموذج لكيفية تربية مراهق ليصبح مواطنا فاضلا في العالم. وحاول روسو من خلال هذه الرواية تقديم فكرته عن التعليم الذي يبني الشخصية والنفس البشرية أكثر من التلقين. وقد ناقش في هذا العمل أيضا دور الأسرة والمجتمع في تكوين شخصية الطفل. وباختصار يمكن القول أن روسو كان يحاول تقديم نماذج قوية يؤمن بها. وهذا من أجل بناء عالم بالشكل الذي يراه فاضلا حسب وجهة نظره.
باختصار لو أردنا الحديث عن أدب روسو سنحتاج الكثير من المقالات، الذي سنخلص من خلالها إلى أن أدبه كان يقدم رؤية شاملة للإنسان والمجتمع، ويحاول تقديم فكر فلسفي يبنيها.
الإرث الذي تركه
كم هو محزن أن تعرف بأن هذا الرجل المهم كان يعاني في حياته، بل كان منفيا يعيش في عالمه الخاص غير آمن على نفسه، ربما اختار هو نفسه هذا العالم، ولكنه كان يمكن ان يعيشه كحكيم محبوب يلجا له الجميع، غير أن هذا لم يحصل، بل عاش منبوذا غير مستقر، حياته كانت بائسة.
تاركا وراءه إرثا مهما أثر ومازال يؤثر في الفكر البشري وفي المجتمعات حتى اللحظة، فكتابه العقد الإجتماعي أساس الأنظمة السياسية الحديثة، القائل بمفهوم التراضي بين الشعب والنظام لبناء سلطة تحكم بغرض تقديم خدمات لشعبها مقابل إلزامه ببعض الضوابط لضمان إسقرار الوطن.
وقدم أيضا مقالات فكرية وفلسفية وكتابات في الفنون، والعديد من المؤلفات المميزة. ويمكن القول أنه رغم كل شيء، تنتهي الصراعات ويبقى الفكر والإبداع قائما.
روسو رحل ووبعد رحيله تلاشت كل خلافاته. سواء أكانت حقيقية أو مجرد هواجس، لا يهم، المهم أن ما ساهم به باق ..
مقال رائع
مقال مفيد جدا، اشكرك